تغيير اللغة
عندما تجبر أن تنسى أنك من بني البشر!
فادي أبو سعدى
كان التعب قد أنهكني، وقد تجاوزت الساعة الثانية من فجر الأربعاء 27 شباط، وكانت الشقيقة قد ضربت رأسي بقوة (الشقيقة هي الصداع النصفي الذي يضرب الرأس على أحد جانبيه الأيمن أو الأيسر) فذهبت إلى فراشي في محاولة مني للحصول على قسط ولو بسيط من الراحة، وما أن بدأت أغفو فعلاً، حتى قفزت من الفراش فازعاً عندما بدأ هاتفي بالرنين مجدداً، وهو الموعد الذي وإن رن فيه هاتفي في مثل هذه الساعة المبكرة يكون في حكم المؤكد أنه يحمل مصائب دائماً!
فادي... خمسة شهداء في غارة إسرائيلية شمال غزة، فادي... شهداء وجرحى في غارة جديدة على جباليا، فادي... غارة أخرى على بيت لاهيا وعلى أهداف في خانيونس، يا إلهي ماذا فعلت ليبدأ نهاري بهذا الشكل، قفزت من الفراش على الفور وقمت بتشغيل جهاز الحاسوب وبدأت بالعمل دون تفكير، وما أن طلع الفجر كان عدد الشهداء قد تجاوز العشرين.
توجهت إلى المكتب لمواصلة العمل من هناك عند السابعة صباحاً، وكان القصف يشتد في كل دقيقة، وأرقام الشهداء والجرحى تزداد في كل حين، وكنا بالكاد قد عرفنا بعضاً من أسماء الشهداء وليس جميعهم، ولم نكن قد علمنا أي اسم من أسماء من سقطوا من الجرحى، كون المستشفيات والعاملين فيها بالكاد استطاعوا تدبر أمور العلاج والإسعاف، فكيف فيما يخص المعلومات!
طوال الأربعاء، كانت أجواء المكتب مشحونة للغاية، وكان التوتر بادياً على جميع العاملين، من محررين ومذيعين، وحتى التقنيين الذي يعملون معنا في الموقع، واستمر الحال على ما هو عليه حتى ساعة متأخرة جداً من الليل.
لم تختلف الأجواء على الإطلاق مع بداية الساعات الأولى من الخميس، ولم أفلح في النوم مطلقاً، حتى أن إحساساً بالانهيار أصابني من شدة الضغط الذي تعرضنا له، سواء في العمل، أو حتى الضغط النفسي لما نشاهده ونسمعه، واستمرت "الأرقام" بالارتفاع بشكل لم يسبق له مثيل منذ العام 2000 أي بداية الانتفاضة الحالية، بحسب كل الإحصاءات المتوفرة.
ورغم استمرار الهجوم الإسرائيلي على كل شيء في قطاع غزة، أو حصد الأخضر واليابس، إلا أن يوم الجمعة كان أهدأ بقليل مما سبقه من أيام، وإن نجحنا بتنفس الصعداء ولو لوهلة، فإننا كنا نعلم أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة، فهذا ما استطعنا تعلمه من التجارب السابقة، ولا شك أن الضغط الذي أصابنا لم يكن بالشيء الهين، وكان التعب الجسدي والنفسي قد ألم بنا بشكل رهيب.
مع انطلاق الساعات الأولى من فجر السبت وهو ما أسماه الفلسطينيون "محرقة السبت" كما قال نائب وزير الجيش الإسرائيلي، أو كما رغب الإسرائيليون بتسميته "الشتاء الدافئ" وهو الاسم الذي أطلقوه على هذه العملية، حتى أعلن عن سقوط عشرة شهداء قبل بزوغ الفجر.
أما نحن، فقد كان بالنسبة لنا "السبت الأسود" وهو بالفعل أسود في كل شيء، أو السبت الدامي، أو "سبت الأموات" ولكم أن تتخيلوا كيف قد نبدو نحن وقد وصل عدد الشهداء بحلول السادسة مساءً إلى أكثر من ستين شهيداً ونحو 150 جريحاً، وقد قررت حينها أنني لا أستطيع الاستمرار على هذا الحال مطلقاً، فقمت بالاتصال مع أحد الزملاء، طالباً منه العمل بدلاً مني، وأسبابي في ذلك كانت كثيرة!
أول هذه الأسباب، هو إدراكي بأنني لم أكن إنساناً في التعامل مع من استشهد من "البشر" أي أهلي في قطاع غزة، وكيف وتحت الضغط الرهيب، ولإيصال المعلومة فقط، تعاملت مع الأمر وكأنه "أرقام وحسب" وهو ما أصابني بحالة من الفزع الشديد، لما أصبحت عليه!
وثاني هذه الأسباب، هو التعب الشديد الذي ألم بي، حيث لم أعد أقوى على الإطلاق بالاستمرار في العمل، خاصة عندما يسألني طفلي الذي لم يتجاوز الأربعة أعوام عن أحداث غزة، ويريد معرفة كل ما يجري هناك، بعد مشاهدته لنشرة الأخبار، وأنا الذي لم يعد قادراً على توفير أية إجابات له في هذا الموضوع، أو أي موضوع آخر.
وقبل أن أكمل الأسباب، وللذين لا يعلمون كيف هي حياتنا في هذه البقعة من الأرض، فأيامنا كلها نفسها، لا شيء فيها يتغير، تبدأ وتنتهي بــ"قتلت، اعتقلت، هدمت، جرفت، دمرت، قصفت، أغلقت" ولكم أن تكملوا من المصطلحات المرادفة ما شئتم، ولكن اعلموا أننا وبعد نهاية كل نهار، نكون فعلاً "مرضى نفسيين" وبحاجة لعلاج لا أعتقد بوجود دواء له في العالم حتى الآن.
وماذا لو علمتم أنه يجب علينا أن نبدأ يوماً جديداً مع علمنا أنه لا يختلف عن سابقه! طيب كيف سنستطيع ذلك بينما لا زالت جراحنا مفتوحة، وألمنا لم ينته بعد! وماذا عن عائلاتنا، وعن محيطنا الذي نعيش معه، هل نصيبهم بنفس المرض الذي أصبنا به! وهل يستطيعون احتمالنا على هذا الحال كل يوم!
الجواب نعم، أي أنهم جبابرة، ونحن أيضاً كذلك، لأننا لو لم نكن كذلك لما استطعنا الاستمرار حتى الآن، وكل الأيام والأشهر والسنوات الماضية، والله وحده يعلم كم سنستمر على هذا الحال في المستقبل الذي لا يبدو أنه قريب على الإطلاق.
"الحقيقة" وهي "المصيبة" في ذات الوقت، أننا لا زلنا بشراً، فطالما نتألم فنحن كذلك، وطالما لم نعد نحتمل فنحن أيضاً كذلك، وطالما نصاب بانهيار، فمؤكد أننا كذلك، ولست أدري عن أي جواب أبحث هنا، فإن كنت إنساناً بينما جردت مني إنسانيتي رغماً عني ولو لحين، فما الذي أريده!
في النهاية نحن من أهل البيت، وإن كنا محايدين كصحفيين فلن نكون غير فلسطينيين مطلقاً، وبالرغم من تغطيتنا للأحداث كما هي، إلا أننا نفعل ذلك من أجل البلد ومن فيها، ومن أجل نقل هذه الصورة للعالم بأسره، والجميع يعلم ذلك، لكن السؤال المطروح والذي يؤرقني دائماً، هل من أحد ما لا زال يشعر بنا، كما نشعر نحن بغيرنا؟ وما نحمله من آلام من كثرة ما نسمع ونشاهد؟ الجواب لديكم!